مع اقتراب كل موسم انتخابي، يتزايد مشهد توزيع المساعدات والمعونات في المناطق الشعبية والقرى الأكثر احتياجًا، وكأن الخير أصبح مرتبطًا بمواسم الانتخابات أكثر من كونه واجبًا إنسانيًا ودينيًا مستمرًا. وعلى الرغم من أن العمل الخيري في جوهره قيمة عظيمة وحميدة، إلا أن الإفراط في تصويره واستعراضه على منصات التواصل الاجتماعي يحوّله إلى أداة دعائية مكشوفة، تفرغ العمل الخيري من معناه الأصيل، وتحوله إلى مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب انتخابية مؤقتة.
العمل الخيري، سواء كان في صورة زكاة أو صدقات أو مساهمات مجتمعية، ليس فضلاً من أحد على أحد، بل هو واجب ديني وإنساني، وجزء من التكافل الذي أمر به الله عز وجل، بل وفي كثير من الأحيان، يتم خصم تلك التبرعات من الضرائب المستحقة على رجال الأعمال والكيانات الاقتصادية، وبالتالي فهي ليست مكرمة، بل حق من حقوق المجتمع.
لكن مع كل موسم انتخابي، يتحول هذا الواجب إلى استعراض فج، حيث تنتشر الكاميرات لتوثق كل “كرتونة رمضان” أو “بطانية شتاء” أو وجبة إفطار، وكأن الفقير أصبح وسيلة دعائية يتم استغلال صورته واحتياجه في سباق انتخابي قبيح. هذه السلوكيات لا تسيء فقط للعمل الخيري، بل تجرّده من معانيه النبيلة، وتحوّله إلى نوع من أنواع “المنّ والأذى” الذي نهى الله عنه في كتابه العزيز:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى).
ما لا يدركه كثيرون أن المواطن البسيط أصبح أذكى وأوعى مما يتصورون، فهو يفرق جيدًا بين من يعمل من أجله حقًا، ومن يبحث فقط عن صورة أو لقطة للاستهلاك الإعلامي. الشعب اليوم يحتاج إلى من يضع له حلولًا حقيقية لمشاكله الاجتماعية والاقتصادية، من يقدم له برامج وخططًا واضحة لتحسين مستوى معيشته، لا من يطارده بعدسة كاميرا في لحظات ضعفه وحاجته.
إن العمل الخيري لا يتعارض مع النشاط السياسي، بل هو جزء من المسؤولية الاجتماعية والسياسية لأي شخصية عامة، لكن بشرط ألا يُستخدم كأداة للترويج الشخصي أو الانتخابي، وألا يُمارَس على حساب كرامة الفقراء. فالخير الحقيقي هو الذي يُقدم بعيدًا عن الأضواء، لأن العبرة ليست في الظهور، بل في الأثر.
إن قيمة العمل الخيري لا تُقاس بعدد الصور المنشورة، ولا بحجم التصفيق الذي يحصده صاحبه، بل تُقاس بصدق النية وإخلاص القلب لوجه الله. الفقراء ليسوا مادة إعلامية تُستغل، ولا أوراقًا تُلعب في المواسم الانتخابية، بل هم أصحاب حق في حياة كريمة، لا تُشترى بكرتونة أو بطانية.
الخير الذي يبقى هو ذلك الخير الذي يُقدم في الخفاء، لله وحده، دون انتظار مقابل أو مكاسب. فالتاريخ لن يذكر من التقط الصورة، لكنه سيذكر من لمس قلوب الناس بعمله الصادق، وأثره الذي لا يُنسى.
الأعمال تُخلّدها النوايا.. فاجعلوا نواياكم لله، وسيحفظ الله لكم الخير ولو بعد حين.